شرح الحديث:
المقدمة: يستعمل هذا القول العميق من نبيّ الله عيسى (ع) تشبيهًا بليغًا يُظهِر الأثرَ الروحيَّ للتعلّق بالدنيا، وكيف أنّ الإفراط في حبّ المال واللذّات الزائلة يحرم الإنسان من لذّة العبادة ومن حلاوة الصِّلة بالله تعالى. فكما أنّ ألم الجسد يمنع صاحبه من التمتّع بطعامه، كذلك مرض القلب يمنعه من التمتّع بلذّة العبادة.
١. تمثيل المريض والطعام اللذيذ يشبّه المسيح (ع) حال الإنسان بالمريض الذي يرى أمامه طعامًا شهيًّا، ولكنّه لا يستطيع أن يذوقه بسبب ما يعانيه من ألم. فالألم الجسديّ حائلٌ دون لذّة الطعام، كما أنّ «مرض القلب» الناتج عن التعلّق بالشهوات الدنيويّة يحجب الإنسان عن تذوّق حلاوة العبادة. وفي هذا التشبيه إشارة إلى الترابط بين الجسد والروح: فمتى امتلأ القلب بالحرص والطمع والغفلة، عجز عن إدراك اللذّة الباقية التي تنشأ من عبادة الله والشعور بالقرب منه.
٢. الإنسان الدنيويّ يشير الحديث إلى «صاحب الدنيا» الذي استولى حبّ المال والجاه على قلبه. هذا التعلّق يولّد مرضًا روحيًّا يُفقِده الإحساس بلذّة العبادة. وقد يظهر الإنسان الدنيويّ بمظهر العابد، غير أنّ قلبه مشغولٌ بأمور الدنيا، فيفقد الطمأنينة التي ترافق العبادة الخالصة. إنّ لذّات الدنيا حلاوةٌ موهومة، تحجب عن القلب الحلاوةَ الحقيقية لعبادة الله، فإذا امتلأ القلب بالدنيا صار غليظًا لا يشعر بأنوار الروح.
٣. حلاوة العبادة حلاوة العبادة هي ذلك الإحساس العميق بالسكينة والرضا والفرح الناتج عن صدق الصِّلة بالله. وهي لا تُعطى إلا لمن عبد الله بإخلاص وتواضعٍ ومحبّة. فالقلب المثقَل بالطمع والأنانيّة لا يقدر أن يذوق طعم هذه الحلاوة، كما أنّ الجسد المريض لا يستلذّ بطعامه. ولكي يذوق الإنسان حلاوة العبادة، عليه أن يقدّم علاقته بالله على متاع الدنيا، لا بتركها كلّيًّا، بل بإعطائها قدرها دون أن تملك قلبه.
٤. الدعوة إلى شفاء الروح يدعو الحديث ضمنًا إلى معالجة القلب واستعادة صحّته الروحيّة. فحبّ الدنيا المفرِط يورث مرضًا لا يُشفى إلا بتزكية النفس من الطمع والغفلة. يدعونا عيسى (ع) إلى الزهد الواعي: أن نعيش في الدنيا دون أن نستعبد لها، وأن نستخدمها وسيلةً لا غاية. ومتى تطهّر القلب من التعلّق، عاد فيجد لذّة العبادة كما يجد المريض طعم الطعام بعد شفائه. وهذه العودة تحتاج إلى مجاهدةٍ ومراقبةٍ ونموٍّ روحيٍّ صادق.
الخاتمة: إنّ هذا القول البليغ لعيسى (ع) يذكّرنا بأنّ صفاء القلب شرطٌ لتذوّق لذّة العبادة. فما دام القلب أسيرًا للدنيا، تبقى العبادة مجرّد حركاتٍ ظاهريّة. أمّا إذا تحرّر من التعلّق، امتلأ بأنوار الإيمان وتحولت العبادة إلى ينبوعٍ من السكينة والفرح. ويعلّمنا هذا الحديث أنّ السعادة الحقّة لا تُنال من لذّات الدنيا الزائلة، بل من لذّة العبادة والخضوع لله تعالى، فهي الحلاوة الباقية التي لا تزول.
All rights reserved for Aimmat al-huda istitute.